بعد أيام فقط على حسم "مصير" رئيس المجلس التنفيذي لـ"حزب الله" السيد هاشم صفي الدين، الذي كان مصنّفًا على نطاق واسع بأنّه "الخليفة الطبيعي" للأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، الذي اغتالته إسرائيل في غارة عنيفة على الضاحية الجنوبية لبيروت في 27 أيلول الماضي، أعلن الحزب انتخاب نائب نصر الله طيلة ولايته، الشيخ نعيم قاسم، خلفًا له، إثر توافق مجلس الشورى على ذلك، عملاً بالآليات التنظيمية المنصوص عليها.

جاء هذا الإعلان مفاجئًا لكثيرين، لأكثر من سبب، أولها أنّ الشيخ نعيم قاسم لم يكن مصنَّفًا فعليًا على أنّه مرشّح "جدّي" للمنصب، رغم أنّه في منصب نائب الأمين العام منذ ما قبل وصول السيد نصر الله إلى الأمانة العامة عقب اغتيال سلفه السيد عباس الموسوي، وقد بقي فيه طيلة ولايته، حتى كان أول من أطلّ أمام الرأي العام بعد اغتياله، ولو أنّه لم يحظَ بمكانة "الرجل الثاني" في الحزب، التي لطالما حجزها السيد صفي الدين.

أما السبب الثاني، فيكمن في أنّ كل التوقعات والتقديرات كانت تميل إلى الاعتقاد بأنّ "حزب الله" سيرجئ بتّ هذا الاستحقاق إلى ما بعد وقف إطلاق النار، بدليل لجوئه إلى أسلوب "القيادة الجماعية" في الآونة الأخيرة، ولا سيما أنّه يدرك أنّ أيّ شخص يُعلَن أمينًا عامًا يصبح تلقائيًا "هدفًا مباشرًا" للاغتيال، وهو ما ترجمه الإسرائيليون فعلاً بتهديد الشيخ قاسم مباشرة بعد الإعلان، بأنّ تعيينه سيكون "مؤقتًا"، لأنه سيلتحق بسائر القادة.

إزاء ذلك، ثمّة العديد من علامات الاستفهام التي تُطرَح، فلماذا أصرّ "حزب الله" على إنجاز الاستحقاق في هذا التوقيت، وقبل انتهاء الحرب، وهل في ذلك "دليل عافية" فعلاً، كما قال العديد من المحسوبين عليه، أم أنّه يشكّل محاولة للتعافي ليس إلا؟ وأيّ رسائل يوجّهها "حزب الله" من خلال هذا الإعلان، سواء لبنيته التنظيمية وبيئته الحاضنة، أو للقوى الخارجية، بما في ذلك الجانب الإسرائيلي، في سياق الحرب النفسية التي يبدو أنّها لم تنتهِ فصولاً بعد؟.

يتحدث العارفون عن سلسلة رسائل أراد "حزب الله" توجيهها من خلال الإعلان عن انتخاب الشيخ نعيم قاسم أمينًا عامًا جديدًا، في الشكل قبل المضمون، استكمالاً لرسائل "الطمأنة ورفع المعنويات" التي يحاول بثّها في الجمهور منذ "صدمة" اغتيال السيد حسن نصر الله، ولكن أيضًا رسائل "الصمود" الموجّهة للإسرائيلي بأنّ سلاح الاغتيالات على قوته لن يجدي نفعًا، باعتبار أنّ الحزب قادر على ملء الشواغر مهما بلغ حجمها.

بهذا المعنى، فإنّ الرسالة الأساسية التي يحاول "حزب الله" إيصالها بهذا الإعلان، هي أنّه استعاد السيطرة التنظيمية إن صحّ التعبير، ووحّد القيادة بصورة أو بأخرى، وبالتالي أنّه تجاوز الاغتيال الغادر، وأكد مواصلة المسيرة، وفق المبادئ والثوابت نفسها، وهو بذلك أراد وضع حدّ لكلّ التكهّنات التي ذهب بعضها لحدّ القول إنّ السيد نصر الله سيكون "الأمين العام الأخير" في مسيرة الحزب، أو أنّ القيادة أصبحت إيرانية محض.

تُفهَم هذه الرسالة أيضًا من باب "رفع معنويات" الجمهور، وإن ذهب بعضه إلى اعتماد "لعبة المقارنات" التي لا تلعب لصالح الشيخ نعيم قاسم، رغم خبرته المتراكمة والطويلة، وذلك في مواجهة السيد حسن نصر الله، مع كلّ ما يحمله من إرث كبير، وقدرات خطابية وكاريزما استثنائية، ولكن أيضًا البنية التنظيمية لـ"حزب الله"، بما في ذلك المقاتلون على الجبهة، الذين بات لديهم مرجعية قيادية واضحة ومحدّدة، يستندون إليها ويعتمدون عليها.

وعطفًا على هذه الرسالة، لا بدّ من الحديث عن رسالة "صمود" جوهرية أراد الحزب إيصالها، مفادها بأنّه استطاع إنجاز الاستحقاق في "ذروة" الحرب، ورغم ظروفها الصعبة والدقيقة، حيث التأم مجلس الشورى بطريقة ما وتوافق على الانتخاب، من دون أن يتمّ استهدافه، علمًا أن مجرد التسمية تحمل "تحديًا كبيرًا"، باعتبار أنّ إسرائيل سبق أن أعلنت صراحةً نيّتها اغتيال من سيُعيّن خلفًا للسيد نصر الله، أيًا كان اسمه.

وبموازاة الرسائل "الشكلية" التي حملها فعل انتخاب أمين عام جديد لـ"حزب الله"، على مستوى رفع المعنويات والصمود والتحدّي، شكّلت تسمية الشيخ نعيم قاسم تحديدًا للمنصب، محور أخذ وردّ، بين من تحدّث عن "رمزية" اكتسبها الرجل على مرّ السنوات، ومن اعتبر الخيار "دليلاً" على أنّ الحزب في وضع صعب، ومن ذهب للحديث عن رسالة يوجّهها الحزب حول انفتاحه على التسوية، بدليل اختياره شخصًا على رأسه، لم يكن عضوًا في المجلس الجهادي.

في هذا السياق، يدافع المؤيدون لـ"حزب الله" والدائرون في فلكه عن الخيار، فللشيخ نعيم قاسم رمزيّة في الحزب بناها على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وقد تعاظمت في الأسابيع الأخيرة، خصوصًا بعدما تحمّل عبء الإطلالة "الثقيلة" أمام الجمهور بعد اغتيال السيد حسن نصر الله، فضلاً عن قربه من الأخير، وهو الذي كان نائبًا له منذ وصل إلى الأمانة العامة، وهو ما يُعتقَد أنه لعب دورًا أساسيًا في التسمية.

لكن في المقابل، ثمّة من يعتبر التسمية دليلاً على ضعف، وليس العكس، باعتبار أنّ اختيار الشيخ نعيم قاسم أمينًا عامًا للحزب لم يحصل إلا بسبب "ضيق الخيارات"، إذ إنّ الكلّ كان يدرك أنّ الرجل ليس مرشحًا لخلافة السيد نصر الله لو حصل له أيّ طارئ، رغم كونه نائب الأمين العام، إلا أنّ اللحظة الاستثنائية فرضت هذا الخيار، في ظلّ غياب "البدائل الجاهزة"، خصوصًا بعد اغتيال السيد هاشم صفي الدين.

وبين هذا وذاك، ثمّة من يقرأ رسائل "سياسية" في الخيار، فمن يقرأ سيرة الشيخ نعيم قاسم يدرك أنه ليس من النوع الغارق في التفاصيل والمجريات العسكرية، وأنّ تخصّصه على مرّ السنوات كان سياسيًا، ولو أنّ وجهات النظر تتفاوت هنا، بين من يعتبر أنّ الرجل سيحافظ على "تشدّد" عرف به في الأيام الأولى، ومن يقول إنّه سيمثّل "خطًا معتدلاً" إلى حدّ بعيد، ولو أنّ هناك من يقول إنّ القرار سيكون في طهران في الحالتين.

الأكيد بحسب ما يقول العارفون، أنّ "حزب الله" أراد أن يوجّه سلسلة من الرسائل بانتخابه الشيخ نعيم قاسم أمينًا عامًا له في ذروة الحرب، وقبل انتهائها، مسجّلاً بذلك نقطة أخرى في سياق حربه النفسية مع العدوّ. لكن بموازاة هذه الرسائل، ثمّة المزيد من علامات الاستفهام التي تُطرَح، فهل تصحّ نظرية، أو ربما فرضية أن هذه التسمية قد تكون "مؤقتة"، وربما "انتقالية" بين مرحلتين في مسيرة الحزب، لن تتبلور ملامحها إلا بعد وقف إطلاق النار؟!.